{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} [القمر: 54/ 1- 8].أخرج البخاري ومسلم والحاكم- واللفظ له- عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقين بمكة، قبل مخرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: سحر القمر، فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.والمعنى: قربت القيامة ودنت، لكنّ وقتها مجهول التحديد، أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «بعثت والساعة كهاتين» وأشار بالسبّابة والوسطى.وانشق القمر فعلا نصفين، معجزة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها.أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء (وهو جبل مشهور بمكة) بينهما.لكن المشركين ظلوا على عنادهم، فإنهم وإن يروا علامة على النبوة وصدق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها، ويولّوا مكذبين بها، قائلين: هذا سحر محكم قوي، من المرّة أي القوة، أو دائم مطرد متماد. وكذبوا بالحق الساطع حين جاءهم، وهو آيات الله الظاهرة، اتبعوا شهواتهم، لا بدليل، ولا بتثبّت، بسبب جهلهم وسخفهم، فهددهم الله ورد على تكذيبهم وأخبرهم بأن كل أمر مستقر، أي كل شيء منته إلى غاية، فالحق يستقر ثابتا ظاهرا، والباطل يستقر زاهقا ذاهبا، ومن جملة ذلك أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سينتهي إلى غاية يظهر فيها أنه على حق، وأنهم على باطل.ثم ونجّهم الله على إصرارهم على الكفر وعلى ضلالهم، فقال: {وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)} أي وتالله لقد جاء مشركي مكة وأمثالهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها، وما حل بهم من العقاب والنكال، مما أخبر به القرآن، ما فيه كفاية لزجرهم وكفّهم عما هم فيه من الشرك والوثنية، ويدخل في كلمة (الأنباء) جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص وأحداث الأمم الكافرة.وهذه الأنباء وما فيها من عبرة وعظة وهداية: حكمة بالغة كاملة، قد بلغت منتهى البيان، ليس فيها نقص ولا خلل، فلا تفيدهم الإنذارات شيئا بسبب عنادهم الذي يصرفهم عن الحق، كما جاء في آية أخرى: {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 10/ 101] وكلمة (ما) إما نافية، أو استفهامية بمعنى التقرير، أي فما غناء النذر مع هؤلاء الكفرة؟ والحكمة البالغة: هي المؤثرة تأثيرا بالغا في وعظ النفوس.فأعرض عنهم يا محمد، ولا تتعب نفسك بدعوتهم، حيث لا يؤثر الإنذار فيهم، بعد هذا العناد والمكابرة، وانتظرهم، واذكر يوم يدعو الداعي فيه وهو إسرافيل، إلى شيء هائل تنكره نفوسهم، استعظاما له، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا، وهو موقف الحساب الرهيب، وما يشتمل عليه من الأهوال والبلايا. وكلمة (نكر): منكور غير معروف، ولا يرى مثله، وهو نعت للأمر الشديد، وهذا وعيد لهم.وذلك اليوم هو يوم يخرج الناس من قبورهم، ويكون الكفار ذليلة أبصارهم، من الذل والهوان، كأنهم لانتشارهم واختلاطهم إذا توجهوا نحو المحشر والداعي: جراد منتشر موزع في الآفاق، أو مثل الفراش المبثوث، كما في آية أخرى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)} [القارعة: 101/ 4].ويكونون مهطعين، أي مسرعين في مشيهم نحو المقصد، إما لخوف أو طمع ونحوه، ويسيرون نحو الداعي لهم وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر، ويقول الكافرون: هذا يوم صعب، شديد الهول على الكفار، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين. وشدته لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته. وذلك كما جاء في آية أخرى: {فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر: 74/ 9- 10].ويدل ذلك بطريق المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين.قصة نوح عليه السّلام مع قومه:ساق الله تعالى في قرآنه قصص الأقوام السابقين، وعيدا لقريش وضرب مثل لهم، ومن أقدم هذه القصص: قصة نوح عليه السّلام مع قومه، فإنهم كذبوه، وزجروه عن تبليغ الدعوة بالسب والرد القبيح والتخويف، ووصفوه بأنه مجنون.فاستنجد بربه، فأجابه، ودمّر القوم بالطوفان. وهذه هي نهاية الظلمة الذين عارضوا الرسل، وقاوموا الدعوة إلى اللّه ووحدانيته، واتبعوا الأهواء، وصدوا عن سبيل اللّه، سبيل الحق والعدل وتوحيد اللّه، فكان لابد من التذكير بقصتهم للاعتبار والاتعاظ، كما يبدو في هذه الآيات: